وصف المدون

عاجل الأن

 



تشهد سورية حاليا تصاعدا في أزمة الطاقة عقب إسقاط الدولة السورية ووصول الجماعات المسلحة لتشكل سلطة الأمر الواقع في دمشق يوم الثامن من ديسمبر الماضي. حيث توقفت إمدادات النفط الإيراني والعراقي التي كانت تقدر بنحو 160 ألف برميل يوميا (120 ألف من إيران و 40 ألف من العراق). وقد أعلن عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي مصطفى سند ذلك حيث قال “قررت العراق وقف تزويد سورية بالنفط الخام اعتباراً من هذا الشهر”. وجاء إعلان سند متزامناً مع تصريح لوزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، الذي أعرب عن قلقه بشأن الوضع الأمني في سورية بعد سيطرة الجماعات الإسلامية على الحكم في دمشق .

 وفي سياق منفصل، عبّر وزير الخارجية فؤاد حسين، خلال فعالية في بغداد، عن قلقه إزاء احتمال عودة الأنشطة الإرهابية في سورية، قائلاً: “بينما نحترم خيارات الشعب السوري، نظل يقظين بشأن احتمالية عودة التنظيمات الإرهابية”.


وما يزيد من أزمة الطاقة في سورية سوءاً توقف الإمدادات الداخلية من النفط الخام من شرق سورية، الخاضع لسيطرة قوات سورية الديمقراطية الكردية، إلى باقي سورية التي تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، التي كانت تصنف دوليا كمنظمة إرهابية خلال الصراع المسلح في سورية. وكان إنتاج سوريو كم النفط قبل انفجار الوضع في مارس 2011 يصل إلى نحو 400 ألف برميل يوميا يخضع معظم آبار إنتاجه في شمال شرق سورية الخاضع لسيطرة قوات سورية الديمقراطية الكردية التي تحميها قوات الاحتلال الأميركي، ولا يتبقى للحكومة السورية سوى آبار نفط يبلغ إنتاجها نحو 20 ألف برميل يوميا.

ومنذ التغير في السلطة، ارتفعت أسعار الوقود في سورية بشكل كبير، وفقاً لمصادر محلية، حيث نفدت المخزونات في محطات الوقود، وأصبحت عملية نقل البنزين والديزل من مصافي سورية صعبة بسبب الوضع الانتقالي.


وكانت سورية خضعت إلى سلسلة من العقوبات الأميركية والدولية والحصار الاقتصادي وقطع العلاقات معها بذريعة اتهام نظام حكم الرئيس السوري (السابق) بشار الأسد بارتكاب جرائم ضد مواطنيه. وقد أضيفت هذه العقوبات إلى سلسلة من العقوبات الغربية التي فُرضت على سورية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بسبب دعم النظام لمنظمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية وضد الاحتلال الأميركي في العراق ونتيجة لذلك، أصبحت سورية معزولة سياسياً واقتصادياً، وتواجه تحديات كبيرة في إعادة بناء اقتصادها وبنيتها التحتية ونظم الدولة. وكان قطاع الطاقة من أكثر القطاعات التي تأثرت بشدة جراء هذه العقوبات.

ومنذ عام 2011، حظرت العقوبات بيع وشراء الغاز والنفط (والمنتجات ذات الصلة) من سورية، ومنعت بيع الأجزاء والمعدات والمعرفة التقنية المستخدمة في صناعة الطاقة، كما منعت الاستثمارات في هذه المجالات داخل سورية، بما في ذلك بناء محطات طاقة جديدة والاستثمار في الشركات التي تعمل في تطوير وإنتاج الغاز والنفط. بالإضافة إلى ذلك، تم فرض عقوبات على الشركات والأفراد المرتبطين بهذه المجالات في سورية. وعزز قانون “قيصر” الأميركي (2019)، الذي وسّع نطاق العقوبات، هذه الإجراءات بشكل أكبر.

نتيجة لذلك، أوقفت الشركات الدولية عملياتها في سورية، مما أدى إلى انخفاض كبير في إنتاج وتصدير النفط والغاز من البلاد، فضلاً عن صعوبات في استيراد النفط والوقود والمنتجات ذات الصلة. كما شكلت العقوبات تحديات في صيانة وإعادة تأهيل وتطوير قطاع الطاقة، الذي كان قد تعرض لأضرار كبيرة خلال الحرب.

على سبيل المثال، انخفض إنتاج النفط في سورية، الذي كان يبلغ حوالي 400 ألف برميل يومياً قبل الحرب، على مدى العقد الماضي ليصل حالياً إلى حوالي 20,000 برميل يومياً فقط. بالإضافة إلى ذلك، انخفض إنتاج مصفاتين تعملان في البلاد، والذي كان يبلغ حوالي 230 ألف برميل يومياً، إلى حوالي 70 ألف برميل يومياً، بينما يستهلك الاقتصاد السوري حوالي 180 ألف برميل يومياً. إلى جانب العقوبات، يمكن إضافة أن الأكراد (بدعم وحماية أميركية) سيطروا على المناطق الشرقية من سورية التي تحتوي على آبار النفط والغاز بعد هزيمة داعش، مما أجبر نظام الأسد على شراء النفط الخام منهم بمبالغ قُدرت بحوالي 1.2 مليار دولار سنوياً (حوالي 80 ألف برميل يومياً).


جميع هذه العوامل أدت إلى أزمة في سوق الطاقة في سورية، مما دفعها إلى التوجه لإيران طلباً للمساعدة. استغلت إيران الوضع بسرعة وبدأت في تزويد سورية بـ 50 ألف إلى 80 ألف برميل من النفط الخام يومياً، بالإضافة إلى الوقود ومنتجات نفطية أخرى. كما استوردت سورية ما يُقدر بـ 40 ألف برميل من النفط الخام يومياً من العراق. وتمثل التعاون بين إيران وسورية أيضاً في اتفاقيات لبناء مصفاة جديدة في منطقة حمص بطاقة إنتاجية تبلغ حوالي 140,000 برميل يومياً، بالإضافة إلى تجديد مصفاة بانياس.

أدى إسقاط نظام حكم الرئيس الأسد وإنهاء وجود إيران في سورية إلى توقف كامل لإمدادات النفط من إيران والعراق إلى سورية، مما أعاد إشعال أزمة الطاقة. وزادت هذه الأزمة سوءاً بعد أن أوقفت القوات الكردية أيضاً تسليم النفط إلى الحكومة الجديدة. ونتيجة لذلك، تقلصت أنشطة مصافي بانياس وحمص، وحدث نقص كبير في الوقود في البلاد، مما زاد من تدهور الاقتصاد وقطاع الطاقة وصعّب من تحقيق الاستقرار في سورية.

منذ سقوط نظام حكم الرئيس الأسد، اختار رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) التوجه إلى الغرب ودول الخليج للمساعدة في استقرار سورية وإعادة إعمارها. وأكد الشرع  ووزراء حكومة الأمر الواقع بشكل خاص على أهمية رفع العقوبات عن سورية للبدء في جهود إعادة الإعمار. وسيتيح رفع العقوبات، في المرحلة الأولى، استيراد النفط والوقود من دول مختلفة ثم بدء إعادة تأهيل البنى التحتية للطاقة والاقتصاد.

استجابت هذه الدول بشكل إيجابي لهذا الطلب، مما أظهر تفهمها للفرصة المتاحة لإحداث تغيير كبير في سورية والمنطقة من خلال تبني سلطة الأمر الواقع  ودفعه للتخلص من الوجود الروسي والإيراني. وكجزء من هذا التغيير، نشهد إعادة فتح السفارات الأجنبية في دمشق، ووصول وفود من دول عربية وغربية، واستعداد لتقديم مساعدات واسعة لإعادة إعمار البلاد.


من المهم الإشارة إلى أن محاولات تقريب سورية من الغرب ودول التبعية العربية (السنية) ليست وليدة التطورات الأخيرة، فقد بدأت خلال فترة حكم الرئيس الأسد ضمن محاولة لإبعاده عن إيران والتوجه لما سمي (الحضن العربي)، للبحث عن حماية وهمية وشملت هذه المحاولات إعادة سورية إلى الجامعة العربية، وزيارة الأسد للسعودية، وإعادة فتح عدد من السفارات في دمشق. ورافق ذلك تجميد قيادات عسكرية سورية، مختبرة وطنية حتى النخاع، بناء على طلب من هذا الحضن العربي التابع. ومع ذلك، تعززت هذه الجهود في ضوء التطورات الأخيرة.


وفي هذا السياق، أفادت تقارير حديثة بأن وفداً تركياً سيزور سورية في الأيام القادمة لتقييم وضع قطاع الكهرباء والطاقة في البلاد، بهدف دراسة كيفية إعادة تأهيله. كما أعربت تركيا عن استعدادها لتزويد سورية بالنفط والوقود. ودعت تركيا حكومة الجولاني إلى ترسيم الحدود البحرية بما يسمح لتركيا استغلال حقول غاز قبالة الساحل السوري. بالإضافة إلى ذلك، هناك تقارير تفيد بأن السعودية ستزود سورية بالنفط بدلاً من إيران، وأن ناقلة نفط سعودية في طريقها حالياً إلى ميناء بانياس. ويبدو أن قطر أيضاً مهتمة بمساعدة سورية في مجال الطاقة.

وفي تصريحات حديثة، ذكرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين ومسؤولون كبار آخرون أن رفع العقوبات وزيادة المساعدات إلى سورية يجب أن يتم تدريجياً، اعتماداً على التزام الحكومة الجديدة بتنفيذ الإصلاحات وقطع علاقاتها مع إيران وروسي وقد ظهر ذلك أيضا خلال زيارة وزيري خارجية فرنسا وألمانيا إلى دمشق يوم الجمعة.


إذا نجحت حكومة الأمر الواقع السورية في تحقيق الاستقرار وتجنب الاحتكاكات الداخلية الكبيرة، فإن إعادة إعمار سورية ستستغرق سنوات طويلة وستتطلب استثمارات اقتصادية خارجية ضخمة. وستستخدم دول عديدة هذه الاستثمارات لتعزيز نفوذها في سورية والمنطقة، مما يبرز أهمية مراقبة هذه التحركات والفرص التي تقدمها.


وعلى الرغم أن تركيا تعتبر حالياً الدولة الأكثر نفوذاً في الشأن السوري، إلى حد أن البعض يصفها بالدولة المنتدبة، يبدو أنها ستواجه صعوبة في تحمل تكاليف وحجم إعادة الإعمار بمفردها. ومن المتوقع أن تنضم قطر إلى جهود إعادة الإعمار، حيث أبدت استعدادها لضخ مبالغ كبيرة في سورية، وهو ما سيصاحبه بالطبع نفوذ سياسي. ومن المخاوف الرئيسية في هذا السياق هو احتمال تشكيل محور قطري-تركي، مما قد يزيد من تأثير أيديولوجية الإخوان المسلمين في المنطقة. وقد يؤدي ذلك إلى تصعيد التطرف، وتهديد الحدود الإسرائيلية في الجولان، وربما زعزعة استقرار الأردن في المستقبل.


في ضوء التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجاه كيان الاحتلال الصهيوني وطموحات تركيا، بالإضافة إلى الأنشطة المعروفة لقطر في دعم الجماعات المتهمة بالإرهاب، يعتقد أن هذا قد يمثل تهديداً كبيراً قد يتحقق في المستقبل القريب.


من جهة أخرى، فإن زيادة النفوذ الاقتصادي (وبالتالي السياسي) لدول مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية، وكذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، قد تقلل من النفوذ السياسي لتركيا وربما تخفف من المخاوف بشأن احتمال توجه النظام الجديد نحو الإسلاموية. بالإضافة إلى ذلك، ستساهم هذه الجهود في صد المحاولات الإيرانية لاستعادة موطئ قدم في سورية، وستصعّب من إعادة تأهيل حزب الله، خاصة وأن سلطة الأمر الواقع في سورية قد أشارت مرارا على لسان ممثليها بأنها لا تعتبر كيان الاحتلال الصهيوني يشكل مشكلة آنية لها وأنها لن تسمح أن يتم اتخاذ سورية منطلقا لهجمات ضد كيان الاحتلال الصهيوني الذي قام فور سقوط حكومة الأسد إلى شن غارات لم تتوقف حتى الآن لتدمير قدرات سورية العسكرية والدفاعية بما فيها مراكز البحوث العلمية العسكرية واحتلال مزيد من الأراضي السورية في الجولان وجبل الشيخ وجنوب سورية في منطقة درعا.


واشنطن-محمد دلبح




إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button

يمكنكم متابعتنا

يمكنكم متابعتنا