كشفت وثائق عسكرية إسرائيلية عن أمر إبادة أصدرته قيادة جيش العدوان الصهيوني يقضي بقتل 20 مدنيا فلسطينيا في كل هجوم يستهدف مقاتلا فلسطينيا واحدا في قطاع غزة أو أي فرد يشتبه في دعمه لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" مع وصول النسبة في بعض الحالات إلى مئة مقابل واحد.
وقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز يوم الخميس تقريرا مفصلا حول هذه الوثائق حيث أكد التقرير أن كيان العدوان الصهيوني أصدر أمرا غير مسبوق في غضون ساعات من بدء هجوم 7 أكتوبر 2023، يأذن بقصف المناطق المدنية في غزة دون قيود تُذكر، وأن العدوان الذي شنه الكيان على قطاع غزة بدءا من الثامن من أكتوبر 2023 كحرب إبادة حيث كان قتل السكان المدنيين عبر القصف الجوي هدفًا يعادل في أهميته قتل من حملوا السلاح ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وقالت الصحيفة: “في كل ضربة، منح الأمر الضباط السلطة للمخاطرة بقتل ما يصل إلى 20 مدنيًا”. وأعطى الأمر الإذن لاستهداف شخصيات مرتبطة بشكل غير مباشر بحماس وهم في منازلهم مع عائلاتهم، مما خلق ظروفًا لمجزرة منهجية ومتعمدة لأسر بأكملها. وأضافت: “سمح ذلك، على سبيل المثال، للجيش باستهداف مقاتلين من الرتب العادية أثناء وجودهم في منازلهم محاطين بأقارب وجيران.”
وأشارت الصحيفة إلى أن “القادة الإسرائيليين الكبار وافقوا على ضربات ضد قادة في حماس كانوا يعلمون أن كل ضربة ستعرض حياة أكثر من 100 مدني للخطر—مما يمثل تجاوزًا لحدود غير عادية بالنسبة لجيش غربي معاصر.”
ما يتضح من التقرير هو أن “النظام” و”قواعد الاشتباك” المستخدمة في ما يسمى “الضربات الوقائية” التي استهدفت من يُشتبه في تعاطفهم مع حماس لم تكن سوى غطاء لقصف شامل لغزة باستخدام قنابل ضخمة تهدف إلى قتل أكبر عدد ممكن من الناس وتدمير أكبر قدر ممكن من القطاع المحاصر.
وقالت الصحيفة إن هدف هذه المجازر هو تطهير غزة عرقيًا لضمها واحتلالها بشكل دائم واستيطانها من قبل كيان العدوان الصهيوني، كجزء مما وصفه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بـ”الشرق الأوسط الجديد”، تحت الهيمنة المباشرة للقوى الإمبريالية عبر كيان العدوان الصهيوني التابع لها.
وتجلى استمرار حملة الإبادة الجماعية هذه حتى يوم الخميس الماضي في استشهاد خمسة صحفيين في غارة جوية، مما رفع إجمالي عدد الصحفيين الشهداء في غزة منذ أكتوبر 2023 إلى 201 صحفيًا.
حتى الآن، استشهد 45,361 فلسطينيًا في العدوان الصهيوني على غزة ، وفقًا لوزارة الصحة في غزة. لكن هذا الرقم لا يشمل العدد الكبير من الأشخاص الذين لقوا حتفهم بسبب تجويع السكان المتعمد من قبل كيان العدوان الصهيوني أو تدمير نظام الرعاية الصحية في القطاع. قد يصل العدد الإجمالي إلى 186,000 أو أكثر، وفقًا لتقرير نشرته مجلة ذا لانسيت في يوليو الماضي.
يشكل تقرير صحيفة نيويورك تايمز اعترافًا شبه رسمي من قبل الحكومة الأميركية بوجود أوامر الإبادة، وذلك من منظور احتواء الأضرار. تم الإبلاغ عن معظم التفاصيل سابقًا من قبل مجلة +972، وهي وسيلة إعلامية مستقلة إسرائيلية-فلسطينية، ولكن تقرير نيويورك تايمز يعد المرة الأولى التي تذكر فيها وسيلة إعلامية أميركية كبرى أنها اطلعت على الوثيقة التي تأذن بقتل 20 مدنيًا مقابل كل مقاتل.
وذكرت نيويورك تايمز أن تنفيذ الهجمات الإسرائيلية يتم دون تحذيرات، وغالبًا بالاعتماد على نظام يُسمى “لافندر”، الذي استخدم الذكاء الاصطناعي لاستهداف مبانٍ سكنية بأكملها وسكانها للتدمير دون أي تحذير، وفي بعض الحالات دون إشراف بشري.
وقد تبع الأمر الصادر في 7 أكتوبر 2023 أمر آخر في 8 أكتوبر 2023، الذي نص، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، على أن “الهجمات على الأهداف العسكرية في غزة… كان مسموحًا بها بحيث تُعرض ما يصل إلى 500 مدني للخطر يوميًا.”
وفي فقرة استثنائية، كتبت الصحيفة أن “أستاذًا من كلية ويست بوينت العسكرية الأميركية استشارته الصحيفة، البروفيسور مايكل ن. شميت، قال إن هذا الأمر قد يُفهم من قبل الضباط المتوسطين كحصة يجب تحقيقها.” ورغم ذلك، ذكرت الصحيفة أن “الحصة” أُلغيت بعد أيام قليلة، ولكن كانت هناك أيام عدة سُجل فيها أكثر من 500 وفاة في غزة.
وخلال أول يومين من الحرب، ذكرت نيويورك تايمز في مقال سابق أن “90 في المئة من الذخائر التي أسقطتها إسرائيل على غزة كانت قنابل موجهة بالأقمار الصناعية تزن بين 1,000 و2,000 رطل.”
وقد صرح المسؤولون الأميركيون مرارًا أنهم شجعوا القادة الإسرائيليين على استخدام ذخائر ذات قوة أقل. لكن هذه التصريحات العامة تتناقض مع تقرير نشرته وكالة رويترز في يوليو الماضي، أفاد بأن الولايات المتحدة أرسلت لإسرائيل 14,000 قنبلة تزن 2,000 رطل بين أكتوبر 2023 ويوليو 2024، وهو أكثر من أي نوع آخر من الذخائر.
إن وجود هذا الأمر الإبادي يفسر نتائج تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان نُشر في نوفمبر الماضي، خلص إلى أن 70 في المئة من الوفيات بين المدنيين في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 كانوا من النساء والأطفال، مع كون الأطفال دون سن 18 يشكلون النسبة الأكبر من الضحايا.
وخلال الإبادة الجماعية، سعت إدارة بايدن إلى الترويج لفكرة أن كيان العدوان الصهيوني، رغم استخدامه المفرط للأسلحة في بعض الأحيان، لا ينوي إبادة سكان غزة أو تهجيرهم قسرًا.
ولكن الواقع هو أن الوثائق التي تحقق فيها صحيفة نيويورك تايمز كانت ستكون متاحة لوكالات الاستخبارات الأميركية خلال أيام من تداولها. وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد أُبلغ بها قبل رحلته إلى فلسطين المحتلة في أكتوبر 2023، حيث تعهد بدعم الحكومة الأميركية الكامل للإبادة الجماعية.
وفي حين أن الهجوم الإسرائيلي على غزة يمثل علامة فارقة في الإبادة السريعة التي لا سابق لها في حرب ترعاها الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين، فإن الولايات المتحدة كانت تشن حروبها في المنطقة بذريعة “الحرب على الإرهاب”، باستخدام العديد من الأساليب التي يستخدمها كيان العدوان الصهيوني حاليًا. في عام 2013، خلصت دراسة نشرت في مجلة PLOS Medicine إلى أن الغزو الأميركي للعراق أدى إلى مقتل نصف مليون شخص أو أكثر بين عامي 2003 و2011، مع مقتل 70 في المئة منهم في هجمات عنيفة.
وكانت الولايات المتحدة شنت منذ عام 2001، نحو 100,000 غارة جوية حول العالم، بما في ذلك في العراق وأفغانستان وباكستان وليبيا وسوريا واليمن والصومال. وخلال حكومة باراك أوباما، أصبحت اغتيالات الطائرات بدون طيار أمرًا روتينيًا في اجتماعات “ثلاثاء الإرهاب” التي كانت تعقد في البيت الأبيض كل ثلاثاء ، حيث كان يختار شخصيًا أهدافًا للقتل غير القانوني، مأخوذة من “مدونة سلوك” أورويلية (نسبة لجورج أورويل في روايته 1984) للأهداف.
إن الاستخدام المنهجي للقتل خارج نطاق القانون على مدى الربع قرن الماضي من قبل الولايات المتحدة هو الرد على مزاعم البيت الأبيض بأنه يحث كيان العدوان الصهيوني على إظهار “ضبط النفس”.
غير أن الواقع يشير إلى أن كيان العدوان الصهيوني باستخدامه الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية المقدمة من الولايات المتحدة، بقوم فقط بتطوير وتأسيس الأساليب التي استخدمتها الولايات المتحدة خلال “الحرب على الإرهاب”. وستكون جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها كيان العدوان الصهيوني، سابقة لمزيد من استخدام القتل الجماعي ضد المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، حول العالم.
واشنطن-محمد دلبح