يوصف فوز زهران ممداني، عضو منظمة الديمقراطيين الاشتراكيين في الولايات المتحدة DSA وتمثل الجناح اليساري التقدمي داخل الحزب الديمقراطي الأميركي الذي يعتبر السيناتور بيرني ساندرز من أبرز وجوهه، في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك بأنه حدث ذو أهمية سياسية عميقة، وله تداعيات على الصعيدين الأميركي والدولي.
ففي نيويورك التي تمثل مركز الرأسمالية العالمية المالية، حيث تهيمن البنوك وشركات العقارات وتكتلات الإعلام، تعرض جناح المؤسسة في الحزب الديمقراطي لهزيمة كبيرة. فقد تم رفض الحاكم السابق لولاية نيويورك، أندرو كومو، الذي كان مدعومًا من وول ستريت والإعلام المؤسسي، بشكل حاسم من قبل الناخبين. سلسلة من التأييدات رفيعة المستوى والتبرعات الضخمة لحملته لم تنقذه—بل ساهمت في انهيارها.
بالنسبة للعمال والشباب، من الضروري فهم ما الذي تُظهره الانتخابات وما لا تُظهره—وما هي الاستنتاجات السياسية التي يجب استخلاصها.
لقد حطمت هذه الانتخابات عددًا من الأساطير التي طالما روجت لها السياسة الأميركية. أولًا، هناك أسطورة أن الاشتراكية "سامة". فقد أعلن ممداني بوضوح أنه "اشتراكي ديمقراطي"، واقترح إصلاحات تتعلق بارتفاع تكاليف السكن ورعاية الأطفال وغيرها من المشاكل الاجتماعية، وهو ما لاقى صدى واسعًا بين العمال والشباب، إلى جانب شرائح من الطبقة المتوسطة، في واحدة من أغلى مدن العالم.
ثانيًا، هناك الادعاء بأن انتقاد الإبادة الجماعية التي ينفذها كيان العدوان الصهيوني في قطاع غزة يساوي معاداة السامية. الحملة التشهيرية المدعومة من أصحاب المليارات والتي قادها كومو، والتي ركزت على اتهام ممداني بمعاداة السامية، انقلبت عليه. فقد حصل ممداني على عشرات الآلاف من الأصوات من بين 1.2 مليون يهودي يقيمون في نيويورك. كان الرفض الشعبي للحرب وما سماه ممداني صراحةً "إبادة جماعية" عاملًا رئيسيًا في فوزه الانتخابي.
وفي هذا الشأن قال الباحث في الدراسات العبرية واليهودية والتاريخ في جامعة نيويورك، آبي سيلبرشتاين، إنّ ترشح ممداني للانتخابات «ليس مُرضياً لإسرائيل»، بحسب مقال نشرته صحيفة «هآرتس».
وعن الأسباب، قال سيلبرشتاين في مقال نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية إنّ ممداني كان صريحاً وواضحاً بشأن آرائه عن الصراع العربي الصهيوني، فهو يصر على المساواة في الحقوق للفلسطينيين.
وتابع الباحث في مقاله أن ممداني دعم في السابق حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، ووصف أفعال الاحتلال في غزة بأنها إبادة جماعية. كما رعى مشروع قانون لإلغاء الصفة الخيرية للمنظمات التي تساعد المستوطنات الإسرائيلية.
وبحسب سيلبرشتاين، فإن المعارضين يخشون أن يولي ممداني في حالة فوزه بالمنصب، الاهتمام الأكبر لمخاوف جميع سكان نيويورك -بمن فيهم الفلسطينيون المتضررون من الأحداث الدولية- بدلاً من مناصرة إسرائيل دون انتقاد.
وينبئ الفوز المحتمل لممداني في مدينة كبرى مثل نيويورك بتحول في المشاعر العامة على نطاق واسع، حيث تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن التعاطف مع الإسرائيليين بلغ أدنى مستوى له على الإطلاق، في حين وصل التأييد للفلسطينيين إلى مستوى لا مثيل له في الارتفاع منذ عام 2001.
ثالثًا، فوز ممداني يدحض الرواية الإعلامية القائلة بأن إعادة انتخاب ترامب في 2024 تمثل تحوّلًا يمينيًا في الشارع الأميركي. لقد استفادت حملة ممداني من المعارضة الشعبية المتصاعدة لحكومة ترامب، مشيرًا إلى أن نفس أصحاب المليارات الذين يمولون ترامب هم من دعموا كومو. قبل عشرة أيام فقط من التصويت، شهدت البلاد أكبر احتجاجات ضد الحكومة في تاريخها، احتجاجًا على دكتاتورية ترامب، وقد تعهد ممداني بمقاومة هجماته على المهاجرين.
رابعًا، فإن القضايا الجوهرية التي تحرك غالبية السكان لا تتمحور حول العرق أو النوع الاجتماعي، كما تروج لها باستمرار المؤسسة الديمقراطية ووسائل الإعلام التابعة لها، بل حول الصراع الطبقي.
إن المشاعر التي حركت التصويت لصالح ممداني تدفع الجماهير إلى صدام مع مجمل النظام السياسي. ما يُرعب الطبقة الحاكمة ليس برنامج ممداني المعتدل نسبيًا، والذي يتم تقديمه ضمن إطار الحزب الديمقراطي، بل حقيقة أن فوزه يثبت أن مفاهيم الاشتراكية يمكن أن تحظى بدعم جماهيري واسع في الولايات المتحدة—بل وفي أشكال أكثر جذرية.
وقد ردت حكومة ترامب ، كما هو متوقع، بإدانات هستيرية. ففي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي يوم الأربعاء، صرح ترامب: "زهران ممداني، شيوعي مجنون بنسبة 100 في المئة، فاز للتو في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وهو في طريقه ليصبح العمدة." يعكس ترامب، بأكثر الأشكال فجاجة وانحطاطًا، قسوة النخبة الحاكمة وخوفها العميق من النهج التقدمي.
المؤسسة الحزبية الديمقراطية، التي عارضت حملة ممداني بشدة، ترد الآن بمزيج من الإطراء والتهديدات. فقد هنّأ كل من زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب حكيم جيفريز، وحاكمة نيويورك كاثي هوشول، ممداني على فوزه يوم الأربعاء، حيث أشاد شومر بما وصفه بـ"حملة مدهشة".
إنهم يعانقونه كما تفعل أفعى البواء حين تطبق على فريستها. ففي الحقيقة، جرت الانتخابات التمهيدية في نفس اليوم الذي أظهر فيه الديمقراطيون في مجلس النواب، بمن فيهم جيفريز، عداءهم المتزايد للمعارضة الجماهيرية ضد ترامب، عندما صوّتوا لقتل قرار لعزل ترامب بسبب عدوانه العسكري الإجرامي وغير الدستوري ضد إيران.
وفي تعليقه على فوز ممداني، كتب ساندرز في صحيفة الغارديان: "هل سيتعلم الديمقراطيون من فوز زهران ممداني؟" وبينما عبّر عن اعتقاده بأن قيادة الحزب الديمقراطي لن تغيّر مسارها، أكد ساندرز قائلًا: "إن مستقبل الحزب الديمقراطي لن يُقرره قادته الحاليون، بل سيُقرره الناس العاملون في هذا البلد".
وقد عبّرت حالة التوتر في الحزب الديمقراطي بوضوح عن نفسها في تعليقات وزير المالية الأميركي الأسبق ورئيس جامعة هارفارد السابق، لاري سامرز، الذي ندد بـ"تتويج" مرشح "فشل في التنصل من شعار 'عولمة الانتفاضة' ويدعو إلى سياسات اقتصادية تروتسكية". وصرّح سامرز بأن على ممداني أن "يتطور" ليطمئن أولئك المتمسكين بـ"الاقتصاد السوقي كقيمة أميركية مثالية". وبالطبع، يقصد سامرز بـ"الاقتصاد السوقي" ديكتاتورية الأقلية المالية دون منازع.
وإذا ما قاوم ممداني هذه الضغوط، فلن يتردد الحزب الديمقراطي في تقويض حملته، بل وربما يحاول تسليم الانتخابات العامة لعمدة نيويورك الحالي إريك آدامز، الذي يخوض السباق كمرشح مستقل، أو لمرشح آخر موالٍ لوول ستريت.
إن الهزة التي أحدثها فوز ممداني على الصعد السياسية والاقتصادية ترافقت مع كونه هندي مسلم مهاجر على أندرو كومو الذي ينحدر من إحدى العائلات العريقة في نيويورك التي كان حاكمها ووالده ماريو كان حاكما محبوبا لها أيضا وزوجته من عائلة كندي وكلا العائلتين تعتبران من القادة التقليديين للحزب الديمقراطي.
من أجل نجاحه في الانتخابات أمام منافسيه لمنصب عمدة نيويورك عينبغي على ممداني أن يتخطى كافة العراقيل حتى يضمن الفوز ضد خصومه في الحزبين الديمقراطي والجمهوري لكونه مسلم ومهاجر هندي واشتراكي. وإذا ما قدر له الفوز في الانتخابات فإنه سيواجه أيضا عراقيل ربما تكون أصعب من ترامب نفسه والالقوى التقليدية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي واليهود من أنصار كيان العدوان الصهيوني الذين يتهمونه بمعاداة السامية، كما سيواجه معارضة كبار الماليين ورجال الأعمال ورؤساء الشركات الكبرى. يكفي أنه قال إذا دخل بنيامين نتنياهو نيويورك فسيعمل على اعتقاله تنفيذا لقرار محكمة الجنايات الدولية.
من هو زهران ممداني؟
مُهاجر مسلم وُلد ونشأ في أوغندا لأب أكاديمي من أصول هندية هو المؤرخ محمود ممداني، وأم هندية هي المخرجة السينمائية الشهيرة ميرا نايير. وانتقل مع أسرته في سن السابعة إلى نيويورك، حيث نشأ في بيئة متعددة الثقافات.
تأثر ممداني بتجربة والده الفكرية وأعمال والدته الفنية، ليوجّه لاحقاً بوصلته نحو القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تمس الفئات المهمشة. انخرط مبكراً في العمل الميداني، ونشط في الحملات التي تطالب بإصلاح قوانين السكن وإلغاء ديون الطلاب، وقاد ممداني حملة ناجحة يتحرك في كل مكان من المدينة يخطب في الناس، يطرق أبوابهم، يتحدث عن فلسطين وعن الظلم البنيوي وعن عنصرية النظام ونفاق منظمات حقوق الإنسان. وقد اُنتخب عام 2020 عضوا في الجمعية التشريعية لولاية نيويورك عن منطقة أستوريا.
واشنطن-محمد دلبح