بدأت الولايات المتحدة في عهد رئيسها السابق باراك أوباما التخطيط للإطاحة بنظام حكم الرئيس بشار الأسد في عام 2011 بشن حملة لا هوادة فيها باستخدام حماعات إسلامية وغيرها شاركت مع حلفائها في تسليحها وتمويلها لينتهي الأمر بسيطرة هيئة تحرير الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة وداعش على دمشق.
وتشهد سورية حاليا مساعي الحلف الأميركي التركي الإسرائيلي لتحقيق مصالحه الخاصة في سورية. فقد نفذت الولايات المتحدة وقوات العدوان الصهيوني مئات الغارات الجوية لتدمير القواعد العسكرية والأسلحة الخاصة بسورية وحلفائها، بما في ذلك إيران وحزب الله وروسيا. فيما سيطرت مجموعات المعارضة السورية المدعومة من تركيا على منبج ومدن أخرى في شمال سورية من القوات الكردية السورية التي تعمل تحت اسم "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة، وأعادت قوات العدوان الصهيوني احتلال منطقة أمنية في مرتفعات الجولان السورية والأراضي المجاورة في انتهاك للقانون الدولي.
وأعلنت واشنطن أنها لا تزال تقاتل قوات داعش في البادية السورية مما يشير إلى استمرار جهودها للسيطرة على البلاد التي مزقتها الحرب.
وقد بدأت الحملة للإطاحة بنظام الحكم في سورية الذي تعاديه واشنطن مع مؤتمر "أصدقاء سورية" الذي نظمته وزيرة خارجية أميركا هيلاري كلينتون في تونس في نهاية شباط/فبراير 2012 وتقرر مد جماعات الاحتجاج في سورية بالأسلحة ( مذكرات هيلاري كلينتون بعنوان خيارات صعبة).
وقد استغلت واشنطن قمع الحكومة السورية للاحتجاجات المناهضة للنظام بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة، حتى مع ازدياد ثراء الأغنياء، في عدة مدن في آذار/مارس 2011، كما فعلت في ليبيا سابقًا، كذريعة لعملية واسعة النطاق لتحقيق مصالحها الجيوستراتيجية ضد نظام كانت تعارضه منذ فترة طويلة.
قامت وكالة المخابرات المركزية وحلفاء واشنطن الإقليميون، من ملوك وأمراء النفط في الخليج وتركيا وكيان العدوان الصهيوني، بتمويل ورعاية وتدريب ودعم سلسلة من الميليشيات الإسلامية كوكلاء لتنفيذ مهمة الإطاحة بالأسد. هذه القوات السنية الطائفية، مثل جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، تم تصويرها بشكل مثير للسخرية على أنها “ثورية”.
وذكر تقرير نشره موقع "الاشتراكي الدولي" أن العديد من الجماعات اليسارية المزيفة تسابقت للترويج لهذه القوات على أنها “ثورية”. ولم يحاولوا تفسير من هم هؤلاء “الثوار”—وفي كثير من الحالات كانوا شخصيات فاقدة للمصداقية من النظام السابق. لم يوضحوا القوى الطبقية المشاركة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء وصف برنامجهم السياسي أو تفسير سبب دعم حكام الخليج المرتبطين بالولايات المتحدة وتفتقر بلادهم لأبسط أشكال الديمقراطية، و يحظرون كل أشكال المعارضة لحكمهم في الداخل، لثورة تقدمية في الخارج—فضلًا عن دعم القوى الإمبريالية. ظهرت لاحقًا بسنوات حقيقة النطاق الواسع لتمويل هذه القوى الرجعية، من خلال برامج وكالة المخابرات المركزية التي أصبحت علنية مثل عملية “تيمبر سيكامور”.
هذه الجماعات اليسارية المزيفة تحتفل الآن بسقوط نظام الأسد على يد الجماعات المسلحة الرجعية بالتعاون مع ممولي ومنفذي الإبادة الجماعية في غزة.
لقد دعموا حربًا أودت بحياة ما يقرب من 500,000 شخص، أي ما يعادل تقريبًا نصف عدد الوفيات المرتبطة بالصراعات عالميًا خلال نفس الفترة. وبينما تراجع نطاق الصراع بعد تدخل روسيا وإيران إلى جانب النظام السوري، كما دمرت الحرب الكونية التي شنت على سورية الركيزتين الرئيسيتين للاقتصاد، النفط والزراعة. على الرغم من أن إنتاج النفط في سورية صغير مقارنة بدول أخرى في المنطقة العربية، إلا أن صادرات النفط شكلت نحو ربع إيرادات الحكومة في عام 2010، بينما ساهم الإنتاج الزراعي بنحو مماثل في الناتج المحلي الإجمالي. فقدت الحكومة السيطرة على معظم حقولها النفطية لصالح جماعات مسلحة، بما في ذلك تنظيم داعش، ولاحقًا القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة.
كما فرضت العقوبات الدولية في عام 2011 قيودًا شديدة على تصدير النفط، حيث انخفض الإنتاج إلى أقل من 9 آلاف برميل يوميًا (مقارنة بـ 380 ألف برميل يوميًا في 2010) في المناطق التي يسيطر عليها النظام العام الماضي. أصبحت سورية تعتمد بشكل كبير على الواردات من إيران، لكن هذا الاعتماد قد يتراجع الآن بعدما سيطرت القوات المدعومة من الولايات المتحدة على معبر البوكمال الحدودي مع العراق.
تعاني سورية منذ فترة طويلة من نقص في الكهرباء، مع انقطاع التيار معظم ساعات اليوم، مما يعني أن العائلات لا تملك ثلاجات عاملة، ويضطرون للاستيقاظ في الساعة الثانية صباحًا لاستخدام الغسالات.
وقال موقع الاشتراكي الدولي أن الحرب دمرت المدن والبنية التحتية في سورية، إلى جانب النظام الزراعي وشبكات الري، وخلّفت إرثًا قاتلًا من الذخائر غير المنفجرة، مثل القذائف والألغام والقنابل العنقودية، على الأراضي الزراعية وجوانب الطرق وفي المباني. كانت سورية في عام 2011 تُصنف كدولة ذات دخل متوسط منخفض، في المرتبة 68 عالميًا من أصل 196 دولة في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، فقدت أكثر من نصف ناتجها المحلي منذ عام 2010 وتراجعت إلى المرتبة 129، لتصبح على قدم المساواة مع الأراضي الفلسطينية وتشاد. أصبحت الآن دولة منخفضة الدخل، حيث تكافح العائلات لتأمين احتياجاتها الغذائية.
وغادر حوالي 5 ملايين شخص من سكان سورية البالغ عددهم 21 مليون نسمة البلاد. بالإضافة إلى ذلك، نزح 7 ملايين آخرين داخليًا، أي ما يعادل ثلث السكان، يعيش العديد منهم في مخيمات مكتظة وفقدوا وثائقهم المدنية والأراضي والممتلكات. حوالي 30 في المئة من الأسر لديها فرد غائب بسبب الوفاة أو هجرة الشباب من الفئة العمرية بين 20 و40 عامًا. وقد أدى نزوح بعض من أكثر الكفاءات السورية إلى تدهور الخدمات العامة، وخاصة في مجالات المياه والصرف الصحي والصحة، مما عرض صحة المزيد من الناس للخطر. سورية تتعامل حاليًا مع تفشي وباء الكوليرا. تساهم الأوبئة المتكررة، والأمراض المنقولة عبر المياه، ونقص اللقاحات، ونقص الغذاء في ارتفاع معدلات سوء التغذية.
مع تدمير معظم المنشآت الإنتاجية في البلاد خلال الحرب، يعمل معظم الناس الآن في القطاع غير الرسمي بأجور منخفضة. ومع تراجع الحكومة عن تقديم الدعم المحدود للوقود والغذاء، أصبحت العائلات تعتمد بشكل متزايد على التحويلات المالية من أفراد الأسرة العاملين في الخارج. وفي الوقت نفسه، بينما انخفضت الأجور، تزايدت الثروات ودخل الأثرياء.
في حين كان الفقر المدقع غير موجود تقريبًا في عام 2010، فإنه بحلول عام 2022 أثر على أكثر من 25 في المئة من السوريين، أي 5.7 مليون شخص. وفقًا لخط الفقر الدولي، يعيش حوالي 16.7 مليون شخص، أي ما يعادل 70 في المئة من السكان، في حالة فقر. يعيش أكثر من 50 في المئة من الفقراء المدقعين في محافظات حلب وحماة ودير الزور، بينما تسجل المحافظات الشمالية الشرقية أعلى معدلات الفقر.
كان السيناريو لإسقاط سورية الذي تم وضعه في أواخر عام 2018 يقوم على سياسة تجويع البلاد على غرار ما حصل في العراق، فالشعوب كما الجيوش تزحف على بطونها للقتال، فقد بدأت خطة المبعوث الأميركي جيمس جيفري تأتي أكلها تدريجيا، وكما هو مخطط لها. انفضت الحاضنة الشعبية عن حربها الوجودية ضد الإرهاب، وصارت تحارب طواحين الفساد التي تغلغلت في دواليب الدولة السورية والتي تحولت –مع إنهاك المؤسسات- إلى العمل بعقلية المهرب الفاسد حتى التخمة، وذلك اضطرارا لتأمين المواد الأولية والعملة الأجنبية بطرق تحتال فيها على العقوبات وتناور الحصار. ويوضح تقرير نشر على موقع "الرأي الآخر" أنه لم يكن ثمة مناص من ذلك أمام واقع تردى للغاية، وحلفاء محاصرين تباعا، التهى كل منهم بحربه ومآزقه، وأصوات الداخل التي بدأت ترتفع عن جدوى الانخراط في إهراق الموارد على الحروب الخارجية.
إن المسؤولية الرئيسية عن الظروف المأساوية التي تعيشها سورية تقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، الذين سعوا إلى تجويع سورية لإخضاعها.
في حين استعاد الأسد، بدعم من إيران وروسيا وحلفائه الإقليميين، السيطرة على معظم أنحاء البلاد، لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. سعت حكومة دونالد ترامب الأولى إلى إفلاس سورية عبر فرض عقوبات ثنائية وثانوية في عام 2020 استهدفت قطاعها المصرفي وخنقت صناعاتها التصديرية وأعمالها التجارية. وعبر سيطرتها على المؤسسات المالية متعددة الأطراف، تسببت الولايات المتحدة أيضًا في انهيار الاقتصاد اللبناني في عام 2019، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسورية، لتشديد الخناق حول دمشق. معًا، أدت هذه الإجراءات إلى زيادة الطلب على الدولار بشكل كبير، وارتفاع هائل في تكاليف المعيشة، ومنع أي مساعدات تساعد في إعادة إعمار سورية. زادت جائحة كوفيد-19 وارتفاع تكلفة القمح بسبب الحرب التي تقودها الولايات المتحدة وحلف الناتو ضد روسيا في أوكرانيا من مستويات الفقر في البلاد.
كما أن الزلازل المدمرة التي ضربت تركيا وسورية في فبراير، فاقمت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في سورية، حيث أسفرت عن مقتل أكثر من 6 آلاف شخص، وتدمير حوالي 10 آلاف مبنى، وتشريد نحو 265 ألف شخص. تسببت الزلازل في أضرار مادية مباشرة تزيد عن 5 مليارات دولار في سورية، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.5 في المئة، بعد أن انخفض بالفعل من 67 مليار دولار في عام 2011 إلى 12 مليار دولار في عام 2022، وفقًا للبنك الدولي. حُرمت العديد من الأسر من معيليها الرئيسيين، مما جعل ملايين الأشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية.
وقد انخفضت أجور القطاع العام بشكل حاد، مما أجبر العمال على العمل في وظائف ثانية ودمر ما تبقى من الدعم للنظام السوري. شهد العام الماضي اندلاع إضرابات ومظاهرات في السويداء ودرعا وإدلب احتجاجًا على تدهور الأوضاع.
وعلى الرغم أن جامعة الدول العربية أعادت عضوية حكومة الرئيس الأسد بعد تعليقها في بداية الحرب التي شنت على سورية، وأعادت دول الخليج علاقاتها مع دمشق، إلا أن ذلك لم يترجم إلى استثمارات أو مساعدات كبيرة، مما قوض آخر فرصة للنظام السوري للبقاء. وكان الانفتاح العربي الزائف على نظام حكم الرئيس الأسد ضمن سياق تحسين سلوك الأسد وتهيئته ليكون قابلا لـ "إعادة التأهيل" وبدأ جماعة الانفتاح على الأسد في العمل على مزيد من اختراق النظام بسحب نخبه المؤيدة له من إعلاميين وفنانين وسياسيين بشراء ولاءاتهم وأقلامهم بالمال.
عانى الاقتصاد السوري من انهيار حر. بين فبراير ونوفمبر 2023، فقدت الليرة السورية نصف قيمتها مقابل الدولار الأميركي، مما أدى إلى ارتفاع التضخم بنسبة ضخمة بلغت 88 في المئة، أي ضعف معدل التضخم في العام السابق، وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، نتيجة انخفاض الوصول إلى السلع، وتعطل سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف التوزيع. وأفاد المركز السوري لبحوث السياسات بأن أكثر من نصف السوريين يعيشون في فقر مدقع، غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء.وطلبت الأمم المتحدة هذا العام 4.07 مليار دولار لتمويل استجابتها داخل سورية، لكنها تلقت حتى الآن 31.6 في المئة فقط من المبلغ المطلوب.
وتوقع تقرير البنك الدولي الذي نُشر في الربيع الماضي استمرار الانكماش الاقتصادي المطول في سورية خلال عام 2024، مع تراجع إضافي بنسبة 1.5 في المئة، بافتراض احتواء الصراع إلى حد كبير، مع انخفاض الدعم الحكومي للغذاء والوقود. من المتوقع أن تزداد هذه الحالة البائسة سوءًا مع تقسيم البلاد بين الجماعات المتنافسة وداعميها.
لقد وصفت هيلاري كلينتون في مذكراتها "خيارات صعبة" سورية بأنها "المعضلة الشريرة" التي لا يمكن أن تعرقل سياسة الولايات المتحدة في المنطقة العربية. وقد نجحت تلك السياسة يوم التاسع من ديسمبر الجاري بإسقاط حكم نظام عربي ناصبته الولايات المتحدة العداء لعقدين كاملين بدأ عقب الاحتلال الأميركي للعراق في مارس 2003.
واشنطن-محمد دلبح