في إطار الدورة الرابعة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، استقبل مسرح الأوبرا في تونس عرضين متتاليين في الثاني والثالث من ديسمبر الجاري للعمل المسرحي الغنائي “ذا جينغل بوك” أو “كتاب الأدغال” للمخرج الأميركي الكبير روبرت ويلسون.
هذا الفنان يعد واحدا من أبرز الفنانين في عالم المسرح والفنون البصرية في العالم، إذ تتطرق أعماله إلى دمج المسرح بفنون أخرى، منها الموسيقى والتكنولوجيا، بشكل غير تقليدي وباستخدام مجموعة متنوعة من الوسائط الفنية، بما في ذلك الرقص والحركة والنحت والمؤثرات السمعية والبصرية من موسيقى وإضاءة.
وبعمله “كتاب الأدغال” يعيدنا ويلسون نحو واحدة من روائع الأدب العالمي، وهو أيضا ينتصر مسرحيا للطبيعة الأم وقوانينها، والبيئة وما يحيط بها من مشكلات سببها الإنسان، وينجح في توجيه بوصلة الدورة الرابعة والعشرين من أيام قرطاج المسرحية للوقوف على أهمية تجربته الفنية التي سيناقشها مع المختصين والنقاد وطلبة المسرح، لكنه نجح أيضا بهذا العرض في توجيه بوصلة المهرجان نحو الاهتمام بقضايا البيئة، القضايا التي تعد إحدى مشكلاتنا الكونية الحارقة، والتي تسعى الشعوب إلى إيجاد حلول لها تضمن استدامة الكوكب ومواجهة التغيرات المناخية الكبرى.
“كتاب الأدغال” كما يشير العنوان، هو عمل مسرحي غنائي مأخوذ عن رائعة الكاتب روديار كيبلينغ (1865 – 1936) التي كتبها في نهاية القرن التاسع عشر وكانت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنية المسرحية والسينمائية، وتحظى بشهرة واسعة حتى في مخيلة الأطفال والكبار ممن نشأوا على قراءة القصص ومتابعة أفلام والت ديزني.
يحافظ ويلسون على روح العمل الأدبي، الذي يحكي سبع قصص قصيرة عن ماوكلي، فتى الأدغال الذي كبُر وتربّى بين عائلة من الذئاب بعد أن هاجم نمرٌ والدَيه واختطفه من بينهما. يعيش ماوكلي في ظِل حماية الذئاب من شرّ النمر شيريخان. ويتعلم قانون الأدغال من الدب البني بالو، والنمر الأسود باغيرا. ويصبح الفتى واحدا من الحيوانات، لا يطبق عليه قانون الذئاب ضد بني البشر، بل يدافعون عنه ويحمونه من كل محاولات الفتك به.
وتنقسم شخصيات الحيوانات في القصة إلى فئتين مختلفتين، فهناك الذئاب “الصالحة” التي تتبع قوانين الغاب وتحافظ على التسلسل الهرمي للسلطة، وهناك الحيوانات “السيئة” مثل الكوبرا والقرود والنمر شيريخان التي لا تتبع القواعد وتسعى لتخريب قوانين الغابة، وتتعرض بسببها الحيوانات لعقاب البشر.
إنها رموز، شيفرات، كتبها كيبلينغ، لتكون قصة صالحة للصغار والكبار، يراها الطفل حكايات خيالية عن عالم الحيوان، في حين يفهمها الكبار انطلاقا من تحليلهم للغة الرمز، فتكون استشرافا للأوضاع الاستعمارية، في مقدمتها الاستعمار البريطاني للهند، ولم لا استشرافا للصراع بين قوانين الطبيعة وقوانين البشر؟
وفي “كتاب الأدغال” يتميز الفتى ماوكلي على الحيوانات بالمعارف البشرية، فهو يعرف لغة الحيوانات وفي الوقت نفسه لسان البشر وثقافتهم التي تمكنهم من الهيمنة على عالم الحيوان، بما يبدو نوعا من التمثيل الرمزي لقدرة الإنسان على الهيمنة أكثر كلما اكتسب معارف أكبر، وهو ما منح القوات الاستعمارية في الماضي اليد العليا على الشعوب البدائية والدول النامية.