ما شدني في حوار المساءلة البرلمانية لرئيس الوزراء المستقيل بمجلس العموم البريطاني بوريس دجونسن، أن الرجل كان يجيب على اسئلة حارقة بانسيابية ودون كذب … تسأله النائبة:
- يوم 18 افريل 2008 التقيت بعميل للكاجي بي الروسي بمقر خاص لك بايطاليا؟
- صحيح
- التقيته بصفة شخصية ودون تنسيق مع السلطات البريطانية ولا في حضور شخصيات بريطانية رسمية ؟
- نعم التقيته بصفة شخصية ومنفردة.
اذن نرى جيدا كيف أن بوريس دجونس وهو يواجه مصيرا مشؤوما وفضيحة غير مسبوقة في التاريخ السياسي لبريطانيا يقدم اعترافات هادئة ومسترسلة دون مراوغة ولا استماتة في الانكار ولا تشبث بالكذب واستعمال شتى عبارات القسم والحلف الكاذب بالله وبرؤوس الاحياء من الآباء والأبناء والمقربين وبرحمة الأموات منهم وبالشرف وبالرسل وبالقرآن وبكل ما هو مقدس، مثلما يحصل عندنا حتى في أتفه الجرائم والمخالفات.
ثقافة الاعتراف بالذنب والاقرار به دون كذب تذكرنا أيضا باعترافات مشاهير الشخصيات السياسية والاعلامية والفنية والرياضية بارتكابهم جرائم تحرش جنسي بأطفال صغار تعود وقائعها لسنين طويلة ماضية، ومع ذلك فبمجرد أن يتشكى الضحايا بعد سنين وقد تجاوزوا مرحلة الطفولة بسنوات يطأطئ المشتكى بهم رؤوسهم ويعترفون دون مراوغة رغم ضعف عناصر الاثبات وارتكازها عادة على تصريحات الضحية فقط.
من المفيد أن نذكّر هنا أن من أبرز مبادئ النظم الجزائية في الدول الانجلوسكسونية أن المتهم ان ثبت أنه كذب أو أنكر التهمة كذبا وافتراء للتفصي من العقاب فانه تتم محاكمته فورا بجريمة ثانية وهي الكذب أمام القضاء …. في بلدنا حينما يجنح المتهم الى الانكار ولا تقتنع المحكمة بانكاره ولا تجاريه فيه وتقضي بادانته وعقابه من أجل التهمة المنسوبة اليه، فهي تكتفي فقط بتحييث موقفها بالقول إن انكار المتهم مردود عليه وكان بغاية التفصي من العقوبة!!! لا أثر لذلك الكذب البواح على المتهم، وكأن من حقه أن يكذب وعلى المحكمة فقط ان تكون ذكية كي تكتشف كذبه فترده عليه.
ثقافة الكذب للاسف مستفحلة في الضمير الجمعي للمجتمع ويتعود عليها الشخص منذ نعومة أظافره في أمور تافهة وبسيطة ثم تتطور شيئا فشيئا وسط تسامح مفرط ومخز بقبول الكذب والتعايش معه بل وتحويله الى نكت للفكاهة والتندّر وتحويل الكذابين الى أبطال في المخيال الجماعي للناشئة.